بعد ثلاثة وعشرون يوما من الصمود الأسطوري في وجه الاحتلال توقفت آلة الدمار وهدئت المدافع والرصاص المسكوب على رؤوس الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء مخلفة أكثر من (1350) شهيد وأكثر من 4500) )جريح وتدمير آلاف المنازل وخسائر مادية تقدر بأكثر من 2) ) مليار دولار , اذا الثمن كان باهض جدا بكل المقاييس وهو الثمن المطلوب لإعادة قوة الردع المسلوبة للجيش الإسرائيلي في المقابل إعادة الاعتبار لخيار المقاومة وأثبتت أنها الخيار الوحيد الذي يمكن المراهنة عليه وهي الصخرة التي تتحطم عليها كل الأهداف والمطامع الصهيونية وان المقاومة هي البديل الشرعي لخيار ونفق التسوية العبثية مع الاحتلال
ان محاولة كسر الإرادات وكسر روح المقاومة والصمود لدي الشعب الفلسطيني باءت بالفشل وكشفت حقائق جديدة على كل المستويات الفلسطينية والعربية والدولية وسنتطرق الى هذه الحقائق والنتائج بالتفصيل
أولا فلسطينيا :…………………………………………………….
تعتبر الحرب على غزة استكمالا لحرب تموز2006 والتي أريد منها تدمير المقاومة وتجريدها من سلاحها وابعادها الى ما وراء نهر الليطاني حيث انتهت الحرب بالفشل العسكري وكسر قوة الردع وهيبة وأسطورة الجيش الذي لا يقهر لتخرج إسرائيل تجر أذيال الخيبة والذل فكان استكمال الفصل الثاني من الحرب على غزة ولكن بشروط متواضعة لكي لا تصدم المجتمع الإسرائيلي كما حصل مع لبنان , فبعد فشل الحصار الاقتصادي والسياسي لأكثر من عام ونصف جاءت الحرب لكسر إرادة المقاومة والصمود وتدمير القدرة القتالية لدي المقاومة الفلسطينية والتي بنيت خلال ثماني سنوات وتجريدها من سلاحها وإجبارها على الانخراط في مشروع التسوية لتمهيد الطريق امام ادارة الرئيس الجديد اوباما لفرض مشاريع استسلامية لتصفية القضية الفلسطينية وإغلاق هذا الملف الذي يؤرق العالم .
ولكن غزة خرجت منتصرة في أول حرب منذ العام 1948م تجري على ارض فلسطينية ويقوم الشعب الفلسطيني بخوض غمارها لوحدة ويسجل فيها صمودا أسطوريا ضد اعتى آلة حربية ورابع أقوى جيش في العالم وهذا في اعتقادي يسمى انتصارا لو أخذت الأمور بمسمياتها على أساس ان الربح والخسارة أي الانتصار يعتبر انتصارا اذا حققت الحرب أهدافها السياسية والعسكرية بناءا على هذا التعريف إسرائيل لم تحقق الأهداف في بداية الحرب وأوقفت الحرب وانسحبت من الأرض دون اتفاق سياسي يحفظ ماء الوجه كحد ادنى امام المجتمع الإسرائيلي
وهذا الانتصار لم يتحقق الا بلحمة الدم الفلسطيني بكافة أطيافه وألوانه السياسية في معمعان المعركة والتكافل الاجتماعي والإنساني والصمود الشعبي الأسطوري هو الذي صنع الانتصار
ان ما قبل الحرب على غزة شئ وما بعد الحرب شيء أخر وهناك معادلات جديدة فرضت نفسها على الأرض وهي :.
1. يعتبر هذا الصمود نصرا للشعب الفلسطيني ولكل قواه الوطنية والإسلامية التي تجسدت في مقاومة الاحتلال بكافة تياراتها وانتماءاتها السياسية والأيدلوجية
2. يجب أعادة الاعتبار لخيار المقاومة كخيار وحيد يمكن المراهنة على المقاومة بعد الصمود الذي حققته في ضل اختلال موازين القوى والغطرسة الإسرائيلية والأمريكية الامبريالية في المنطقة وفشل خيار المفاوضات بعد أكثر من خمسة عشر عام من المفاوضات العبثية
3. يعتبر الانقسام السياسي نقطة سوداء في التاريخ الفلسطيني وأعطى إسرائيل المبرر للاستفراد في القطاع وتصنيف القوى الفلسطينية ما بين معتدلة وإرهابية وحتى محيطنا الإقليمي والدولي حمل الانقسام مسؤولية الحرب
4. بالرغم من الانقسام السياسي الحاد بين فتح وحماس وما وصلة الية الأحداث الدموية في قطاع غزة بين التيارين الا ان الحرب على غزة والدم الفلسطيني المسكوب وحد الشعب وفصائل المقاومة تحت راية واحدة وهي مقاومة الاحتلال وصد العدوان ومن كانوا بالأمس أنداد اختلط دمهم بتراب الوطن والعزة في أسطورة الدفاع عن شرف الامة
.5 كنا نعتقد ان حرب غزة كما وحدتنا في الدم والمصير ستوحدنا في السياسة وتلملم الجراح وتعيد اللحمة للشعب الفلسطيني للجلوس على طاولة الحوار ونبذ الماضي وبناء المستقبل وتكريس كل الجهود لأعمار ما دمرته الحرب وإغاثة المشردين وتضميد الجرح الفلسطيني النازف , ولكن للأسف ازدادت الهوة والانقسام والتشرذم وتصفية الحسابات الحزبية وارتفاع منسوب اشتراطات الحوار وكأن الأمور تسير باتجاه اللا عودة
.6 دور المحاور والتدخلات الإقليمية والدولية بدأ دورها وتأثيرها واضح للعيان في الشأن الفلسطيني وساهمت بشكل كبير في شق الصف الفلسطيني ولم يعد هناك استقلالية للقرار الوطني والذي دفع شعبنا آلاف الشهداء وخاض العديد من المعارك من اجل استقلالية القرار الوطني الفلسطيني .
.7غياب منظمة التحرير الفلسطينية عن الساحة السياسية وتغييب لدورها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني من الحرب ومن العملية السياسية
ثانيا عربيا:…………………………………………………………
لم يحصل ان وصل الحال العربي الى ما وصل عليه حاليا من الانقسام والتشرذم وحينما وصف السيد عمرو موسى الحال العربي بمرارة كان يدرك جيدا ما يقول وهذا الحال تجلى واضحا في زحمة القمم العربية والتقسيم العربي ما بين الاعتدال والممانعة والخلافات الحادة والتي قادتهم الى الهروب من المسؤولية القومية الى مجلس الأمن الدولي في محاولة للخروج من المأزق العربي ليتجلى في قمة الكويت الاقتصادية حينما لم تستطع القمة إصدار قرارات عربية تضع النقاط على الحروف وتضع المصالح الأمريكية الأوروبية على المحك في حال لم تلزم إسرائيل بالالتزام بالشرعية الدولية حيث خرج العرب منقسمين على أنفسهم
ان الوضع العربي لا يبشر بخير على الإطلاق وإذا بقي الحال العربي على ما هو علية الان سوف يتم تجاوزهم وتجاوز مصالحهم في ضل النظام الدولي الجديد
اعتقد ان المطلوب مصالحة عربية جدية وان تضع مصالحها وهمومها وقضاياها الوطنية والقومية فوق كل الاعتبارات الخارجية وان تتعامل مع الغرب بلغة المصالح والخروج من العباءة الأمريكية والتبعية العمياء للغرب حتى تستطيع ان تجد لها موطئ قدم في المعادلة السياسية والتكتلات الدولية والمحفظة على كياناتها وان تبني اقتصادياتها الهشة على أسس متينة قبل ان يتجاوزها الزمن , في هذا الواقع المرير افرز العالم العربي عدد من النقاط المهمة
1. ان الالتفاف والاصطفاف الجماهيري الحاشد من المحيط إلى الخليج حول المقاومة لدليل واضح على صدق وجاهزية هذه الشعوب في الوقوف بجانب قضاياها الوطنية والقومية العادلة وإنها ترفض الوصاية الأجنبية وسياسة أنظمتها العربية الملتحقة بالركب الأمريكي , وان الجماهير العربية تجاوزت النظام العربي الرسمي وتجاوزت قياداتها السياسية الحزبية والمدنية حيث ان هذه الأحزاب والحركات فقدت البوصلة والقدرة على القيادة وهذه الشعوب بحاجة الى من يقودها الى بر الأمان
2. عمق الانقسام والخلاف العربي وما وصلت إليه من التشرذم والانقسام الذي لا يبشر بنهوض الوضع العربي من تحت الركام ومحاولة بناء الذات
3. العجز السياسي العربي المخيف والمرعب والذي وقف عاجز عن انعقاد قمة عربية او اتخاذ مواقف سياسية على قدر الجريمة التي ترتكب في غزة
4. عمق الهيمنة والسيطرة الأمريكية على القرار السياسي العربي وعمق الالتحاق العربي بالسياسة الأمريكية
5. عجز النظام العربي عن استخدام أوراق الضغط السياسية والاقتصادية التي يمتلكها في الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل والأوروبيين في إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وغيرها من القضايا العربية والقومية مثل قطع العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال وإغلاق السفارات والممثليات ، المقاطعة الاقتصادية للدول والشركات الداعمة للاحتلال , التهديد بتخفيض انتاج النفط إلى اقل من النصف , سحب الأرصدة العربية من البنوك الأوروبية والتي تعد عماد الاقتصاد الأوروبي
6. خروج مصر والسعودية كقوي إقليمية عربية ذات تأثير سياسي وديني حيث فقدت قدرتها القيادية وزعامة العالم العربي لصالح دول إقليمية مثل إيران وتركيا
7. ما حصل في قطاع غزة يعتبر رسالة واضحة وقوية لدول إقليمية وتحديدا سوريا بان ما حصل في غزة قد يحصل لسوريا لو تجاوزت الخطوط الحمر
8. بروز التيار الديني كقوى سياسية قوية على الساحة العربية والإسلامية في قيادة التحركات الشعبية المناهضة والمنددة بالعدوان على غزة وحشد عشرات الآلاف مما يعني اتساع شعبية هذا التيار في الأوساط الشعبية والمثقفين وأصبح القوى السياسية الأولى المؤثرة في قيادة الشعوب في المستقبل وهذا الامتداد جاء على حساب التيار القومي والاشتراكي .
ثالثا إسرائيليا:……………………………………
لا يوجد دولة في العالم تاريخها ملطخ بالدماء مثل الدولة العبرية لقد قامت هذه الدولة على القتل والتدمير وارتكاب المجاز التي يندى لها الجبين بحق الأطفال الرضع والنساء والشيوخ لتحدث حالة من الرعب والصدمة والخوف مما حول ملايين الفلسطينيين إلى لاجئين
ان سياسة القتل واستهداف المدنيين كوسيلة ضغط للابتزاز السياسي لم تعد وسيلة مجدية الآن في ضل المتغيرات الوطنية حيث أدركت المقاومة المعادلة والأهداف الإسرائيلية فلم تعد سياسة القتل والمجازر المتعمدة بحق المدنيين تجبرهم على الهجرة ولم تعد الالة العسكرية تحدث حالة من الرعب والصدمة بل زادتهم قوة وإرادة على الصمود والمقاومة
لقد تراجع المشروع الصهيوني وانكفئ إلى الخلف بعد ان كان يحقق الانتصارات المتتالية أصبح يحقق الهزائم العسكرية والسياسية لينحصر داخل أسوار إسمنتية بناها لنفسه ليتحصن من ضربات المقاومة بعد ان كان مشروعة يمتدد من النيل الى الفرات ،نعم لقد فشلت إسرائيل في العقدين الأخيرين في المجالين العسكري والسياسي حيث فشلت الآلة العسكرية في فرض سيطرتها على الأرض سواء في لبنان او في قطاع غزة مما يعني انه لم تعد الآلة العسكرية قادرة على تحقيق الانتصارات وفقد قوة الردع للجيش الإسرائيلي وان الجيش الذي لايقهر هي مجرد أسطورة صنعتها الآلة الإعلامية ولم يعد لها مكان في هذا الزمن اما المجال السياسي فالخسارة العسكرية على الأرض تعني انه ليس باستطاعة إسرائيل فرض شروط المعركة بقوة السلاح وهذا يعتبر الانتصار الأكبر والأقوى الذي تحققه المقاومة في العقدين الأخيرين حيث أرادت إسرائيل تحقيق مالم تحققه بقوة السلاح ان تحققه بقوة الدبلوماسية والابتزاز والضغط عن طريق أطراف إقليمية ودولية فالحرب على غزة لم تحقق الأهداف التي أعلنتها إسرائيل على الإطلاق ولم تستطع فرض تهدئة بشروطها , وأصبح أكثر من مليون مواطن إسرائيلي تحت مرمي الصواريخ الفلسطينية حيث لا يوجد مكان امن داخل إسرائيل مالم يعيش الكل بسلام وهنا تحقق للأول مرة ما يعرف بالمفهوم العسكري ميزان الرعب لدي الفلسطينيين
والنقطة الاخري وهي ان هذه الحرب هي حرب تحريكية يراد منها إدخال حماس إلى المفاوضات وفتح قنوات اتصال أوروبية وإسرائيلية والتعامل معها كقوي سياسية موجودة على الأرض وتتمتع بشعبية واسعة داخليا وإقليميا وتحديدا بعد فشل كل الوسائل التي اتبعت من اجل النيل من الحركة ومحاصرتها لكي ترفع الراية البيضاء .
رابعا دوليا :…………………………………………………..
لم يكن في يوم من الأيام المجتمع الدولي نصير للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني او نصير للدول والشعوب المهمشه ،حيث الازدواجية في التعامل بمقياسين حينما يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية والعالم العربي , وقطبية العالم الأحادية بقيادة الولايات المتحدة والتي تتحكم في العالم والتزام أوروبا المطلق بالأمن الإسرائيلي مما يعني انه يحق لها ان تفعل ما تريد تحت مظلة الأمن والدفاع عن النفس
ان الحرب على غزة وقبلها حرب تموز وكل القضايا العربية تثبت ان المؤسسات الدولية سقطت أخلاقيا وايدولوجيا وسياسيا وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي ولم تعد هذه المؤسسات تمثل الإرادة الدولية والقيم الإنسانية الخلاقة بسبب الهيمنة والضغوط السياسية الأوروبية والأمريكية عليها حيث أصبحت وسيلة ضغط في يد هؤلاء للضغط على الدول الضعيفة للابتزاز السياسي والاقتصادي وهي بحاجة الى اعادة بناء على أسس وثوابت جديدة , وإلا على الدول العربية الانسحاب من تلك المؤسسات وإدارة الظهر لها وعدم الاعتراف بشرعيتها
فيما نحن لا نقلل من التأييد الشعبي الكبير الذي تحضي به القضية الفلسطينية داخل المجتمع الأوروبي ومن مؤسسات المجتمع المدني والحركات اليسارية في أمريكيا اللاتينية ونحن نثمن الموقف الكبير لفنزويلا وكوبا وغيرها من الدول التي قطعت علاقاتها مع الاحتلال وهذا يعتبر تحول كبير لصالح القضية الفلسطينية على ألمدي المنظور
اعتقد ان الموقف الأوروبي والأمريكي لن يتغير موقفة بشكل جدي مالم يكون هناك موقف عربي موحد وهو التعامل بمنطق المصالح وتهديد مصالحه في المنطقة والاهتمام بالمصالح العربية بشكل جدي يعيد العرب بقوة على الساحة السياسية الدولية .